حول زهور أمل دنقل
بقلم/ أحمد عيسى
يبدو أن قصيدة "زهور" من أواخر ما أبدع الشاعر أمل دنقل، نلمح ذلك من إشارات في القصيدة تشي بأن "أمل" كان نزيل مشفى وطريح فراش؛ لذلك انهالت عليه طاقات من الورود والأزاهير، جاءت رسائلَ حُبّ ومودة وإعزاز وتقدير.
حملتها إليه سلال كان يتلمحها قبيل أن يغفو، وحين يستيقظ ويُفيق، وكانت السلال ممهورة بأسماء محبيه على بطاقات تتسق وألوان الطرود.
استمع إلى الشاعر يقول:
وسلالٌ منَ الورِد
ألمحُها بينَ إغفاءةٍ وإفاقه
وعلى كلِّ باقةٍ
اسمُ حامِلِها في بِطاقه
ويدور حوار من نسج الخيال بين الشاعر والزهور والورود، يتخيل "دنقل" خلال هذه المناجاة رحلةَ الورود إليه منذ أن استحالت إلى فتيات على أغصانهن.
قد دهشن واتسعت عيونهن ببراءة في لحظات الجني، وأثناء الأسر والسبي على أيدي الجامعين لهن الذين حطموا قلوب الفتيات (الأزهار) في قطف قاسٍ أشبه بقصفٍ مدمّر لحياة الآدميين؛ وأحكام من الإعدام دون جريرة ومن دون اجتراح ذنب أو جريمة!
يقول دنقل:
تَتَحدثُ لي الزَهراتُ الجميلهْ
أن أَعيُنَها اتَّسَعَتْ - دهشةً -
لَحظةَ القَطْف
لَحظةَ القَصْف
لحظة إعدامها في الخميلهْ!
لقد تكبدت الزهور في رحلتها لفراش الشاعر معاناة ومأساة فقد وقعت الأزاهير كملكاتٍ من فوق عرش الحدائق والبساتين.
سقطت الملكات مغشياً عليهن ليُفقن في سجون من زجاج معارض الورود، أو على أصوات الباعة وقد أمسكوا بالورود عارضين لها كفتيات في سوق نخاسة.
ولم تلبث هذه الزهور طويلاً في أيدي الباعة المتعرقة، فقد تناوشتها أيادي المشترين المُعجبة والحانية، والزهور وإن لم تتخلص من الأسْر تماماً إلا أنها مع سيدها الجديد من المشترين ربما تكون أفضل حالاً وأسعد صحبة ومرتفقاً.
يقول أمل:
تَتَحدثُ لي..
أَنها سَقَطتْ منْ على عرشِها في البسَاتين
ثم أَفَاقَتْ على عَرْضِها في زُجاجِ الدكاكينِ، أو بينَ أيدي المُنادين
حتى اشترَتْها اليدُ المتَفضِّلةُ العابِرهْ
ولَكَم كانت هذه الملكات (الزهور) رحيمة مُضحية فرغم أنها تجود بالأنفاس الأخيرة بحياتها عبقاً وشذاً وحسناً وجمالاً، نراها تُحدث الشاعر عن رحلتها إليه ضارعةً ترفع أكفها الخضراء داعيةً ترجو للشاعر الشفاء العاجل، والعمر المديد، وأن يكون من بعدها ممتعاً بالسعادة والراحة والعافية.
يقول دنقل:
تَتَحدثُ لي..
كيف جاءتْ إليّ..
(وأحزانُها الملَكيةُ ترفع أعناقَها الخُضْرَ)
كي تتمنى ليَ العُمرَ!
وهي تجودُ بأنفاسِها الآخرهْ!!
أخيراً.. يزاوج الشاعر بين حياته التي أوشكت على الرحيل بحياة باقات الورود التي لم يبقَ في نضارتها وأريجها إلا القليل لتسلم النفْس في أُفول وذُبول.
لقد صارت كل طاقة من طاقات الورود بين إغماءة الشاعر وإفاقته، بل بين سكراتها هي ويقظتها تودّع الحياة مثل الشاعر بانتزاع أنفاسٍ معدودات بين اللحظة واللحظة.
والورود في ذلك كله تجود بروحها راضيةً بأن يكون آخر العهد بالحياة أن تعانق رائحتها أنف الشاعر، ويختلط عبيرها بعرقه المتصبب، وإن كانت قد وشَت قبل رحيلها باسم قاتلها (قاطفها ومُهديها).
يقول الشاعر:
كلُّ باقهْ..
بينَ إغماءة وإفاقهْ
تتنفسُ مِثلِىَ - بالكادِ - ثانيةً.. ثانيهْ
وعلى صدرِها حمَلتْ - راضيهْ...
اسمَ قاتِلها في بطاقهْ!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق